تدوينات

هل عقدة النقص من أخطار مزاولة مهنة الترجمة؟

خطَرَ لي هذا التساؤل وأنا أشاهد حوارًا مع دينيس چونسون دايڤيس. دايڤيس، المتوفي بالقاهرة عام 2017 عن عمر ناهز 95 سنة، هو أيقونة الترجمة الأدبية من العربية إلى الإنجليزية، كما يعلم المهتمون بالأدب أو الترجمة أو كليهما، وكما شهد بذلك إدوارد سعيد، وكما تشهد بذلك ترجماته، التي من بينها أكثر مؤلفات توفيق الحكيم، وكثير من أعمال يحيى حقي ويوسف إدريس ومحمد تيمور وخيري شلبي ومحمود درويش والطيب صالح، ونجيب محفوظ.

خرجتُ من الحوار، الذي دار على هامش احتفال الجامعة الأمريكية بمئوية نجيب محفوظ عام 2011 (في أعقاب الثورة)، بانطباعات مختلفة، تتلخص في أن الرجل كان يعاني مما بدا لي أنه شعور بالدونية، وعقدة نقص دلَّت عليها شواهد كثيرة. أولُ هذه الشواهد، وليس آخرها، هو التمركز الشديد حول الذات، والتمترُس خلف إنجازاته الشخصية. فقد نسي أن هذه المساحة إنما فُردت له للنظر – بعدسة المترجم – إلى نجيب محفوظ وأدبه. فإذا به ينبري ساردًا سيرته المهنية، ومتحدثًا عن دوره الثقافي، وفضله على الأدب العربي، وحقوق المترجم المهضومة. 

لم يُرضِ غرورَه أن يوصف بأنه رائد الترجمة الأدبية العربية، فاستدرك قائلًا: واقعيًا، أنا كنت الوحيد! يحرص كل الحرص، دون سبب أو تفسير أو رابط واضح بموضوع السؤال، على أن يذكر – كلما سنحت الفرصة أو لم تسنح – أن صداقة قوية ربطته بجميع «نجوم» الأدب (نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي وتوفيق الحكيم وطه حسين والطيب صالح)، كأنما ليقول إنه كان في زُمرة الكبار، يخالطهم، ويطاولهم، ويُعدُّ – من ثمَّ – واحدًا منهم. دايڤيس، المترجم الذي نال شهرة قلما نالها غيره، كان يستقلُّ ما وصل إليه، ويستكثر نفسه على عمله، ويشكو حقه الضائع، ويرثى لحاله وحال المترجمين. 

وهو، في ذلك كله، يضع نفسه وما وصل إليه في إحدى كفّتي المقارنة، وفي الكفة الأخرى: نجيب محفوظ ونوبل. في إشادته بكتابة الطيب صالح العفوية والطبيعية، ألمح إلى أن أسلوب محفوظ لم يخل من الاصطناع. ونقل عن محفوظ أن التزامه الفصحى لم يكن له من دافع سوى الحفاظ على القرَّاء العرب غير المصريين. وإنني لأستبعد أن يكون دايڤيس صادقًا فيما نقل، أو لعله لم يعِ كلام محفوظ على وجهه (ذلك أن موقف محفوظ من اللغة مسجَّل في عديد المواضع، وهو على خلاف ما ذهب إليه دايڤيس). ثم كان أن قال دايڤيس، فيما قال، إنه استقبل خبر فوز محفوظ بالجائزة «باندهاش» كبير!

هناك، في تقديري، ثلاثة منظورات يصحُّ أن يُعزى إلى أحدها – أو إليها معًا – موقف المترجم:

1. العمر: فالرجل الذي كان قد ناهز التسعين حين شارك في الندوة، ظهرت عليه أمارات ضعف التركيز، فكان يجد صعوبة في متابعة الأسئلة وإجابتها. ثم إنه، وهو في مُختتم حياته، لا يُدعى للحديث عن إنجازاته، وإنما لتكريم الآخرين، وهو الذي لم يسبق تكريمه؛ وهو الذي أنفق من عمره ما أنفق وهو قريبٌ من دوائر الضوء، دون أن يكون داخلها أو جزءًا منها. أورثه هذا الوضع مرارة، تُرجمت إلى مزيج من ادعاء الفضل، واستكثار النفس، واستقلال الآخرين.

2. العنصرية: الإشارات الكثيرة إلى أن أحدًا في الغرب لم يكن يهتم بالأدب العربي قبل أن يتصدى لترجمته، وأحدًا لم يتصور أن في مقدور الثقافة العربية إنتاج أعمال أدبية على قدر معقول من العمق والتعقيد الفنيين، وأن الفضل في تقديم الآداب المحلية للعالم، ومن ثم جلب العالمية لها، إنما يعود للمترجم/ له شخصيًا، إذ إن «كلمات» المترجِم، لا المؤلف، هي ما تُقرأ في نهاية المطاف — كل هذه الإشارات قد تُقرأ على أنها انعكاس لتعالٍ عنصري، جعل من العسير عليه أن يتقبَّل فوز محفوظ – ممثل الثقافة الأدنى – بنوبل، بينما لم يفُز هو – ممثل الثقافة الأعلى – بأكثر من دعوة للحديث عن أعماله!

3. أخطار مزاولة المهنة (occupational hazards): 

إذا كان من أخطار مزاولة مهنة الطب أو التمريض، على سبيل المثال، الإصابة بالعدوى، وإذا كان من أخطار مزاولة مهنة إطفاء الحرائق الإصابة بحروق، فهل ثمة أخطار قد تنجُم عن مزاولة مهنة الترجمة؟ هناك، بالقطع، الأخطار الصحية و/أو الاجتماعية التي قد تترتب على ممارسة الأعمال الذهنية لفترات طويلة. لكن هل يمكن اعتبار الشعور بالدونية أو «عقدة النقص» خطرًا نفسيًّا يتهدد المترجمين، خاصة النابهين والمشهورين منهم؟

أعتقد أن هذا صحيح، إلى حد بعيد. فالترجمة بطبيعتها مهنة «ظِلّ»، يُجيدها مَن يستطيع أن يحافظ على «اختفائه»1، بحيث لا يظهر المترجِم في النَّص إلا عاريًا، أو حائلًا بين القارئ والمؤلف، أو بين القارئ والنص الذي يقرأ. هو كالنادل، يتحرّكُ في سلاسةٍ بين الزبائن، جيئةً وذهابًا، ولا يكادُ يلمحُهُ أحد، بحيث لا تتسلَّطُ عليه الأضواء، ولا يصيرُ محطًّا للأنظار، إلا حينما يتعارك مع أحد الزبائن، أو يُحدثُ ضجيجًا بسقوطه وسقوط الأكواب التي في يده. كذلك المُترجم، لا يظهرُ في النصّ إلا ساقطًا. ربما هذا ما قصد إليه نيدا2 بقوله: «بلاذع النقد يُقابَل المترجم حين يخطئ، وبإطراءٍ باهتٍ ليس إلا حين يصيب».

ومع ذلك، فإن مساحات الظل التي يقبع فيها المترجم، ويستتر وراءها، متاخمة لدوائر الضوء. وهنا تنشأ عقدة النقص، حين يقارن المترجم حظّه من الشهرة والظهور بحظ «رفقائه» المؤلفين، الذين يُعدُّ نفسه واحدًا منهم، فتظهر الأعراض النفسية التي أظهرها دينيس چونسون دايڤيس في حديثه عن نفسه، الذي كان مقررًا أن يكون حديثًا عن نجيب محفوظ في مئويته.


  1. صُنِّفت كتب في الاحتفاء باختفاء المترجم، من هذه الكتب، على سبيل المثال، كتاب يحمل عنوان «اختفاء المترجم»، لأحد أعلام نظرية الترجمة المعاصرين، لورانس فينوتي، صدر عام 1995، ونقلَتْه إلى العربية سمر طلبة، ونشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب الترجمة في عام 2009. ↩︎
  2. Eugene Nida, ‘Towards a Science of Translating’, 1964, p. 155. ↩︎

نُشرت بواسطة حسام خليل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *