تدوينات

من الكمامات إلى الأقنعة الجراحية.. أو كيف تجني الترجمة على اللغة

دخلنا “الجائحة” ونحن نعرف أن الجرّاحين يرتدون “كمامات” في غُرف العمليات. ويبدو أننا لن نخرج منها إلا وقد اندثرت هذه الكلمة، المسكينة. وبين الدخول والخروج، لنا أن نفكر قليلًا في إجابةٍ عن هذا السؤال: كيف تُفقِر الترجمة اللغة؟

تدلُّنا المعاجم على أنَّ كلمة “كِمَامة” مشتقة من الفعل كمَّم، ومصدره تكميم (المستخدم في التعبير الفصيح/ الدارج “تكميم الأفواه”). وهي على وزن “فِعالة”، شأنها شأن عِمامة، وحِجامة، ولثام، وحجاب، ونقاب. وتعني: غطاء الفم والأنف. وهي قريبة في معناها من كلمة “لثام”. وأما “القناع” فهو غطاء الوجه، بأكمله.

ليس هذا مبحثًا لغويًا، يُعنى به اللغويون والمشتغلون بالكتابة، المنشغلون بالبحث عن الفروق الدقيقة بين الكلمات. فقد كانت هذه هي المعاني الدارجة للكلمات أيضًا، وكانت الفروق بينها واضحةً في الوعي العام. فكنا نعرف أن الكمامة هي ما يرتديه الجرّاحون. وأما “القناع” فهو ما كنا نرتديه صغارًا في الأعياد، وما يرتديه جيم كاري في الفيلم، أو هو قناع “بانديتا”، على رأي الإخوان.

كان ذلك حتّى حلّت كورونا. فوجدنا الصحف والمواقع تتحدّث عن الأقنعة، وأقنعة الوجه، والأقنعة الجراحية. ووجدنا أننا، في أحاديثنا العادية، نتخلّى شيئًا فشيئًا عن “الكمامات”، وربما نتعالى عليها، ونستبدلها بكلمة أخرى، هي “الماسكات”.

وما أرى إلا أن هذا من صنيع الترجمة، والمترجمين، الذين نقلوا هذه المفردات نقلًا حرفيًا من masks، وfacemasks، وsurgical masks.

قالوا إن الترجمة تُثري اللغة، بما تنقل إليها من مفرداتٍ ومعانٍ ومفاهيم ربما لم تكن موجودةً فيها. لم يقولوا إنها قد تُفقرها أيضًا.

فالترجمة — لاسيَّما إذا كان القائمون عليها، في أكثر الأحيان، هم مَن أعرف وتعرفون — تفرض تفضيلات اللغة المصدر (المنقول منها) على اللغة الهدف (المنقول إليها). قد يكون هذا طبيعيًا، وربما محمودًا؛ إذ هكذا تتطوّر اللغات، وتتلوّن.

غير أن هذا النهج في النقل قد يكون مَرَضيًا كذلك، يُحدث ارتباكًا والتباسًا لم يكونا موجودين في اللغة. وفي هذه الحالة، نلاحظ انحسار كلمة “كمامة”، الأدق، بما قد يقود إلى اندثارها، لصالح كلمات أقل دقة؛ لاعتقاد المترجمين –بل والكُتَّاب، وهو الأمضُّ– أنها “عامية” أكثر من اللازم، واعتقاد العوام أنها “بلدي” أكثر من اللازم.

هكذا تُفقَر اللغات؛ تُصبح أقل قدرةً على التعبير، والتمييز.

ومَن يقرأ كتابين، أحدهما حديث والآخر قديم بعض القِدَم، يرى كيف أننا صِرنا حبيسي مُعجم لفظي ضيّق جدًا، لا يسعفنا لتوصيل المعاني العاديَّة والحاجيَّة، فضلًا عن المتخصصة والمجرَّدة. ولا يبعُد أن يرى للترجمة، والمترجمين، في هذا الفقر اللغوي يدًا.

نُشرت بواسطة حسام خليل

‏4 رأي حول “من الكمامات إلى الأقنعة الجراحية.. أو كيف تجني الترجمة على اللغة”

  1. Michelle Clark يقول:

    Way cool! Some extremely valid points! I appreciate you writing this article and the rest of the site is really good.

  2. ملاك شوباش يقول:

    صدقت أستاذ ، اللغة العربية من اثرى اللغات و اصبحنا لا نرى الا الاقتراض والتعريب

  3. محمد قناوي يقول:

    مجهود رائع جزاك الله خيراً، وأتفق تماماً أننا -سواء مترجمون أو غير مترجمين- مقصرون في حق اللغة فالعجز فينا وليس في اللغة. ومن وجهة نظر شخصية أظن لو حضرتك عرضت بعض الحلول سيكون المقال أفضل بكثير.
    بعتذر لو في أخطاء لغوية لاني لست متخصص

  4. مصطفى طه يقول:

    سَلِمَت يداك يا أستاذ حسام، فكرة مهمة فعلًا، وقلَّما ننتبه نحن كمترجمين لمثل تلك التفاصيل الدقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *