ترجمات

ما جرى للإيراني المسلم في كامبريدج عام 1816

قبل مائتي عام وصلت إلى لندن أول مجموعة من المسلمين للدراسة في أوروبا. أرسلهم ولي عهد إيران لاستكشاف العلوم الجديدة التي نشأت بفضل الثورة الصناعية. 

ومع استقرارهم في مسكنهم بلندن، عم الحماس المسلمين اليافعين الستة في آخر شهر من عام 1815 مما رأوه في المجتمع حولهم؛ حشود من الرجال والنساء يجتمعون كل مساء في مسارح المدينة. فلندن كانت مفعمة بالحيوية بعد هزيمة نابليون الأخيرة منذ عدة أشهر في معركة واترلو. والعلوم الجديدة التي بُعث لاكتشافها الطلاب بدت وكأنَّها في كل مكان، بالأخص القوارب البخارية الجديدة التي حملت الركاب على طول نهر التايمز.

ومع مرور عدة أشهر بدأ المغتربون الستة في استيعاب قدر مهمتهم. فلم تكن لديهم مؤهلات ملحوظة، ولا معارف بين مجتمع الأكاديميين الحميمي الصغير آنذاك، ولا حتى معرفة باللغة الإنجليزية، ولم يكن هناك قاموس فارسي إنجليزي ليستعينوا به.

آملين في تعلم الانجليزية، بالاضافة الى اللاتينية التي ظنوا خطأً أنها كانت لا تزال اللغة الرسمية للعلوم في أوروبا آنذاك، استعان هؤلاء الطلاب المستقبليون بقسيس اسمه جون بيسيت. تخرج بيسيت في جامعة أوكسفورد، وأخبرهم عن جامعتي إنجلترا العريقتين. وعندما تولى أمر طالبين منهم بعد ذلك عالم الرياضيات الموسوعي أولينسوث جريجوري، توطدت علاقاتهم بالجامعتين، إذ قضى جريجوري عدة سنين في كامبريدج كبائع كتب ناجح. لذا وُضعت خطة لتعريف طالب واحد على الأقل، وهو ميرزا صالح، بأستاذ قد يكون أكثر استعدادًا لمساعدة أجنبي على الدراسة في كلية من كليات كامبريدج دون الالتحاق بها رسميًا.

كان ذلك قبل السماح للكاثوليك بالدراسة في جامعات بريطانيا بمدة طويلة، لذلك فإنَّ استقبال كامبريدج لهذا الطالب الإيراني المسلم، الذي أسس لاحقًا أول جريدة في إيران، أثار الاهتمام وتسبب في حالة من الارتباك.

اختير الأستاذ صامويل لي من كلية كوينز للإشراف على صالح، وهو اختيار بدا غريبًا لدعم «صغار طالبان»، كما دعا الناس هؤلاء الطلبة بالفارسية. إذ كان لي مسيحيًا ملتزمًا، كرس نفسه لدعوة مسلمي العالم إلى المسيحية. وإلى جانب عائلة فن المؤثرة، وبعض جامعات كوينز، كان على صلة قريبة بجمعية التبشير الكنسية التي أُنشئت عام 1799، وبدأت تصبح سريعًا مركز الحركة التبشيرية في كامبريدج.

لكنَّ تلك الأجندة خصيصًا هي ما جعل المسلم اليافع جذابًا بالنسبة لصامويل لي. لم يكن الهدف بالنسبة له تغيير ديانة صالح، وبالتالي توجيه روح إضافية للخلاص المسيحي، وإنَّما أنَّ ثقافة صالح ونطقه بالفارسية قد يساعدا الأستاذ في مهمته السامية لترجمة الإنجيل إلى الفارسية، التي كانت تُستخدم أيضًا في أنحاء الهند وقتها، بالاضافة إلى إيران الحالية. لذا انتهز صامويل الفرصة، وتلقى صالح دعوة للانضمام الى كامبريدج.

كما كشفت مذكراته التي كتبها بالفارسية، أُعجب صالح بالأستاذ لي إعجابًا جمًا، ورغم أنَّ الأجيال اللاحقة خلدت ذكرى لي باعتباره المستشرق المتميز في أوكسفورد وكامبريدج، الذي تقلد المنصب السامي وشغل الكرسي الملكي لأستاذية اللغة العبرية، فإنَّ نشأته كانت أكثر تواضعًا. نشأ لي في قرية من قرى منطقة شروبشاير الصغيرة وسط عائلة من النجارين، وفي مراهقته تدرب على يد نجار كذلك. وعلى متن رحلة بحثية من كاليفورنيا، زرت قرية لونجنور التي نشأ بها، والتي لا تزال نائية حتى اليوم، يصل الناس إليها عبر طرق ذات مسار واحد متخفية بين الشجيرات. وسعدت بالعثور على الحروف الأولى لاسم جده الأكبر النجار ريتشارد لي محفورة في المقاعد الخشبية بالكنيسة المحلية، التي صنعها لجيرانه القرويين.

قبل مائتي عام، لم يكن مألوفًا لفتى ريفي مثل صامويل لي أن يصبح أستاذًا في كامبريدج، لكنَّه كان يملك ذكاءً لغويًا حاز به دعم رجل نبيل محلي. ولأنَّ صالح كان يشبهه في طموحه وعزمه وطلبه للعلم، فقد أُعجب بصامويل لي العصامي، وفي مذكراته دوَّن قصة حياته بإجلال.

ومن خلال دعم صامويل له، أصبح بإمكان صالح المبيت في كلية كوينز، وتناول الطعام في الردهة مع أساتذة مثل ويليام مانديل وجوزيف جي. في ذلك الوقت كان يرأس كلية كوينز الفيلسوف الطبيعي إسحاق ميلنر، الذي اشتهر بحبه وشغفه بالحوارات مثلما كان مشهورًا في مجال الكيمياء. استمتع صالح بتناول الغداء بالتأكيد على طاولة العظماء، لكن لم يكن جل وقته في كامبريدج لتلك المآدب الملكية. فقد جال للدراسة في المكتبات التي أثارت اهتمامه، بالأخص مكتبة رين في كلية ترينيتي، التي تحتوي على تمثال لإسحاق نيوتن، والذي وصفه صالح في مذكراته بأنَّه «فيلسوف يجسد أعين إنجلترا ومشكاتها المضيئة». 

وفي مقابل فتح أبواب عالم الجامعة المنغلق أمامه، ساعد صالح صامويل لي في ترجمته للإنجيل إلى الفارسية، حتى أنَّه كتب خطاب توصية عندما رُشح صامويل لمنصب الكرسي الملكي، ولا يزال الخطاب محفوظًا في أرشيف الجامعة.

ومن مذكرات صالح إلى خطابات صامويل لي ووثائق الجامعة، تظهر لنا صورة غنية لتلك العلاقة غير المألوفة، التي تشكلت بين مسلم أجنبي وبين أكثر المسيحيين إخلاصًا ضمن حركة المسيحية العضلية في كامبريدج آنذاك.

كانت الجامعة واحدة من أماكن عديدة زارها صالح مع زملائه الطلبة المسلمين خلال الأربع سنوات التي قضوها في إنجلترا، باحثين عن الثمار العلمية للحركة التنويرية. وبينما يدور الحديث دومًا عن المواجهة بين الإسلام والغرب من زاوية العداء والصراع، فإنَّ مذكرات صالح تعرض مجموعة من السلوكيات المختلفة جذريًا مثل التعاون، والتعاطف، والإنسانية المشتركة، وكذلك الصداقات غير المألوفة، من خلال تسجيل تاريخ هذه العلاقة غير المتوقعة مع المبشر صامويل لي. هذه المذكرات كتبها صالح في إنجلترا تزامنًا مع روايات جين أوستن، وهي شهادة منسية وتذكرة مفيدة عن واقعة إنسانية، جمعت بين الأوروبيين والمسلمين في فجر العصر الحديث.


هذا المقال مُترجم عن مجلة «إيون» Aeon، كتبه نايل جرين، أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا، ومؤلف كتاب The Love of Strangers: What Six Muslim Students Learned in Jane Austen’s London. وقد حرَّرت المقال الأصلي مارينا بينجامين.

نُشرت بواسطة سهيلة زكريا

مترجمة، تدرس مجال اللغات والترجمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *