الترجمة الحَرفية، كما أفهمها، هي الترجمة التي يؤدي الالتزام فيها بالنص المصدر (المنقول منه) إلى تغييب المعنى (أو إضعافه أو تغبيشه)، أو ركاكة الصياغة في النص المُترجَم (المنقول إليه). أما الترجمة سليمة المعنى، مُحكمة الصياغة، التي تلتزم – ما أمكن الالتزام – بالنص المصدر، فتلك في مفهومي هي الترجمة الدقيقة.
فلو أنني خُيّرت بين سلامة المعنى، والالتزام بالنص، لاخترت الأولى من دون شك. لكن هل المترجم مُلزم بالوقوف على أحد هذين القطبين، لا يبرحه؟ لا، وإنما يتحرك بينهما. فالترجمة، كما لا يغيب عنك، عملية تنطوي على عدد لا نهائي من القرارات. فالمترجم، كما تقول فرانسين بروز، لا يختار اللفظ المناسب، وإنما اللفظ «الأنسب» من بين عدد (يُفترض أن يكون كبيرًا) من الخيارات. ثم إن الأمر لا يتوقف عند اختيار الألفاظ، وإنما يتجاوز ذلك إلى الجوانب والمكونات اللغوية المختلفة. وهو، في ذلك كله، يقترب من القطبين آنفي الذكر، أو يبتعد عنهما، بحسب ما يرى «مناسبًا» للسياق. وعُنصر «المناسَبة» هذا (أو النسبية: من نص لآخر، ومن مترجم لآخر، ومن سياق لآخر)، والمساحة الواسعة المتروكة للمترجم في تناوُل النص، هما ما يُضفيان بُعدًا «فنيًّا» على عملية الترجمة (إذا عُدنا للتفكير في السؤال الشهير: هل الترجمة علم أم فن؟).
فنحن لا نختلف على ضرورة نقل المعنى. غير أن هدف الترجمة يتجاوز نقل المعنى الكلي إلى توصيل المعاني الجزئية، والصور، والإيحاءات، والأخيلة، بل والموسيقى إن أمكن، إلى غير ذلك مما يصحُّ أن يُطلق عليه رُوح النص. فغاية المترجم النهائية أن يخلق كيانًا لغويًّا «مناظرًا» للنص الأصلي، وأن يتيح لقارئ الترجمة فرصة مكافئة لتلك المتاحة لقارئ النص الأصلي — ما أمكن إلى ذلك من سبيل (إذ التناظر والتكافؤ التامَّان، بهذا المعنى، مستحيلان عمليًّا). ويصحُّ، في بعض الأحيان، أن يتحقق التناظُر بمفارقة الأصل، لا بملازمته.
وإذن، فالمترجم مشدودٌ بين التزامين: التزام حيال المؤلف، والتزام حيال المتلقي. الالتزام الأول يفرضُ التقيُّد بالنص الأصلي، والالتزام الثاني يُملي عليه شروطًا جديدة (وربما غريبة على هذا النص) مستقاة من لغة المتلقي، وثقافته، وتوقعاته. فهي معادلة، تحقيق التوازن بين عنصريها ليس دومًا بالأمر اليسير؛ إذ كثيرًا ما يتنازع الالتزامان، وكثيرًا ما يُمليان معطياتٍ متعارضة.
عندما طالعت ترجمة زكي نجيب محمود لكتاب برتراند رَسِل «تاريخ الفلسفة الغربية»، ووجدتُه على قدر هائل من الفصاحة، وحُسن السَّبك اللغوي، ساورني شكّ أن المترجم قد قرر مفارقة النص الأصلي، انتصارًا لقوة اللغة. أتيت بالنص الأصلي، وقارنتُه بالترجمة، فإذا الترجمة تكاد أن تكون «حرفية». هذا ما أعنيه: أن تُنتج نصًّا جيدًا، من واقع عملك مترجمًا، لا مؤلفًا. أما التأليف في موضع الترجمة، أو الترجمة في موضع التأليف، فما أراه إلا أمارة على الضعف والفقر (على قول طه حسين).
زِد على ذلك أن المترجم قد يختار – واعيًا – أن يسلك طريقًا مغايرًا للطريق الذي سلكه المؤلف: كأن تُترجم القصيدة الإنجليزية إلى قصيدة عربية، بمعطيات الشعر العربي، وكأن يُراعَى لدى ترجمة نصّ صوفي من الإنجليزية إلى العربية، على سبيل المثال، أن تكون العربية عالية الجرس، غنية البيان، جريًا على التقليد العربي المرعيّ في النصوص الصوفية من قديم. غير أن هذه المفارقة تخدم هذا «التناظر» أكثر مما تخلُّ به، إذ تهيّء للمتلقي الثاني (قارئ الترجمة) ظروفًا مكافئة للظروف التي يتمتع بها المتلقي الأول (قارئ النص الأصلي)، أو تسعى إلى مكافأتها.
وكنت أودُّ أن أتحدث إليك قليلاً في مسألة ترجمة الحِكم والأمثال والمأثورات، لكني أطلتُ عليك بالفعل. فليكن للحديث بقية.