نحن البشر نحمل في أفواهنا إرث تطورنا عبر العصور. لكنَّنا نادرًا ما نتأمل كم أنَّ أسناننا مذهلة؛ فهي تقوم بطحن الطعام ملايين المرات خلال حياتنا، دون أن تتأذَّى أو تتكسَّر، مع أنَّها مكوَّنة من ذات المكوِّنات الأولية للطعام الذي تطحنه. إنَّ تصميمها1 ملهم بالفعل!
لكن مع ذلك، فإنَّ اصطفاف الأسنان في أفواهنا غير منتظم وفوضوي، هل لاحظت ذلك؟ هل ضرس الحكمة لديك منطمر؟ هل أسنانك السفلية الأمامية متراكبة وغير مصطفة بانتظام؟ هل الفك العلوي لديك متقدم بشدة عن الفك السفلي؟ غالبًا سنجيب جميعًا بـ«نعم» على سؤال واحد على الأقل من هذه الأسئلة، ما لم نكن قد خضعنا لإجراء تقويمي. يبدو الأمر كما لو أنَّ أسناننا أكبر من أن تتَّسع لها فكوكنا، وأنَّه ليست هنالك مساحةٌ كافية في القسم الأمامي أو الخلفي من الفك لجميع الأسنان. ومن غير المنطقي أن يكون تصميم بهذه الدرجة من الإتقان غير ملائم إلى هذه الدرجة.
عادةً ما تمتلك الحيوانات أسنانًا مصطفَّة اصطفافًا مثاليًا، وكذلك كان أسلافنا من البشر، وحتى بعض البشر الذين ما زال نمط حياتهم يعتمد حتى اليوم على أساليب الصيد والجمع التقليدية. فأنا عالم متخصص في أنثروبولوجيا الأسنان بجامعة أركنساس، وأدرس قبيلة الهادزا في وادي الصدع العظيم في تنزانيا بقارة إفريقيا، وهي قبيلة تعتمد في تأمين غذائها على جمع الطعام والصيد. أول ما تلاحظه في أفواه الناس في هذه القبيلة هو امتلاكهم عددًا كبيرًا من الأسنان، فمعظمهم يمتلك 20 سنًا خلفيًا، بينما أغلبنا يمتلك فقط 16 سنًا بازغًا ويقوم بوظيفته في الفك الواحد. وتصطف حواف الأسنان السفليِّة لديهم إلى جانب بعضها لتشكيل منحنى متجانس ومثالي لا تشوبه شائبة، أمَّا بالنسبة لنموذج الإطباق، فإنَّه إطباق حدٍّ لحدٍّ بين الأسنان الأمامية للفكين العلوي والسفلي، دون تقدم لأحد الفكين على الآخر. خلاصة القول أنَّه عند قبيلة الهادزا، تتناسب أحجام الأسنان مع حجم عظم الفك بشكل مثالي، وينطبق هذا أيضًا على أسلافنا القدامى، وعلى أقرب الكائنات الحية للبشر، أي القرود والسعادين.
إذن لماذا لا تلائم أسناننا حجم فكوكنا؟ الإجابة المختصرة ليست أنَّ أسناننا كبيرة جدًا، وإنَّما أنَّ فكوكنا أصغر من أن تتسع لها. دعني أشرح ذلك ببساطة. السن مُغطَّى بغطاء صلب هو ميناء الأسنان، الذي يتشكل من داخل السن باتجاه الخارج، أي أنَّ الخلايا المشكِّلة للميناء تتحرك باتجاه السطح الخارجي للسن، مخلِّفةً وراءها طبقة الميناء القاسية. وإن كنت قد تساءلت يومًا عن عجز الأسنان عن النمو أو ترميم نفسها بعد الانكسار، أو بعد ظهور النخر فيها، فيعود ذلك إلى أنَّ هذه الخلايا المشكلة للميناء تموت وتتلاشى عند بزوغ الأسنان. وتبعًا لذلك فإنَّ أحجام الأسنان وأشكالها مُصمَّمة وراثيًا مسبقًا، وهي لا تتغير استجابةً للظروف داخل الحفرة الفموية.
لكن بالنسبة لعظم الفك فالأمر مختلف، لأنَّ حجم نموه يعتمد على كلا العاملين، العامل الوراثي من جهة، والعامل البيئي من جهة أخرى. إذ يزداد طوله مع زيادة استخدامه، خاصَّةً في مرحلة الطفولة، تبعًا لاستجابة العظم للإجهاد2. فقد أجرى عالم البيولوجيا التطورية دانيال ليبرمان في جامعة هارفرد دراسةً مبتكرة عام 2004 على مجموعة من الوبريات (حيوان بري شبيه بالأرنب)، تغذَّى بعضها على طعام مطبوخ وطري، والبعض الآخر على طعام قاسي ونيِّئ، وتبيَّن أنَّ الوبريات التي مضغت أكثر نمت عظام الفك التي تُثبِّت الأسنان لديها نموًا أكبر. وبيَّن ليبرمان في دراسته أنَّ الطول النهائي للفك يعتمد على مقدار الإجهاد الواقع عليه أثناء المضغ.
لذا فإنَّ طول عظم الفك يعتمد على مقدار النمو المتوقع بالنظر إلى مدى قساوة الطعام في النظام الغذائي للفرد، وبهذه الطريقة فإنَّ النظام الغذائي هو الذي يحدد إلى أيِّ مدى سوف تتناسب أحجام الأسنان مع طول الفك. إذن هي عملية توازن دقيقة بين العاملين، أمضى جنسنا البشري 200 ألف عام لإتقانها. تكمن المشكلة في أنَّ أسلافنا في غالب الوقت لم يكونوا يطعمون أولادهم أطعمةً لينة مثل التي نطعمها لأولادنا اليوم، وبالتالي فإنَّ أسناننا ليست متلائمة مع فكوكنا لأنَّها تطورت لتلائم فكوكًا أطول، تلك الفكوك التي كنا سنمتلكها لو كنَّا نُعرِّض عظام الفك لإجهاد أكبر. إذن عظم الفك لدينا قصير جدًا لأنَّه لم يتعرض لمقدار الجهد والمشقة الذي كان من المُتوقع للفك أن يتعرض له.
هناك أدلةٌ وافرة على ذلك؛ فعالم أنثروبولوجيا الأسنان روبيرت كوروتشيني في جامعة إلينوي الجنوبية لاحظ هذه الآثار عند المقارنة بين سكان المدينة وسكان الريف في مدينة شانديجار بشمال الهند وحولها، أي بين أولئك الذين يعتمدون في غذائهم على الخبز الطري والعدس المهروس، والذين يعتمدون على حبوب الدَّخن الخشنة والخضراوات القاسية. لاحظ كوروتشيني أيضًا تلك الآثار على الأجيال المتتالية لشعوب بيما في أريزونا، بعد افتتاح منشأة تجارية لتصنيع الأغذية في المحمية. فالنظام الغذائي يحدث فارقًا كبيرًا. وأتذكر أنَّني طلبت من زوجتي مرارًا ألَّا تُقطِّع اللحم إلى قطعٍ صغيرة لبناتنا وهن صغيرات، كي يمضغن بشكلٍ كافٍ، لكنَّ زوجتي قالت إنَّها تُفضِّل دفع المال من أجل تركيب أجهزة تقويم الأسنان لبناتنا، على أن تُعرِّضهن للاختناق. وقد خسرت ذلك النقاش.
بالطبع فإنَّ ازدحام الأسنان والتفافها وانحرافها وانطمارها تُعد مشاكل كبيرة لها عواقب جمالية واضحة، لكنَّها أيضًا لها أثر مهم جدًا على المضغ وحدوث التسوُّس في الأسنان. ونصفنا تقريبًا يحتاج إلى تقويمٍ للأسنان. هذه العلاجات غالبًا ما تتضمَّن خلع أو نحت بعض الأسنان ليتلاءم صف الأسنان مع طول الفك. لكن هل هذا الإجراء معقول من وجهة النظر التطورية؟ الجواب على هذا السؤال هو «لا» من وجهة نظر بعض أطباء الأسنان الممارسين. وقد تعاون أحد زملائي في جامعة أركنساس، وهو عالم الآثار البيولوجية جيري روز، مع أخصائي التقويم ريتشارد روبلي، لدراسة هذه المسألة. وكانت توصيتهما للأطباء الممارسين هي التركيز على نمو الفك، بالأخص عند الأطفال. أمَّا بالنسبة للبالغين، فإنّ العمليات الجراحية التي تُحفِّز نمو عظم الفك تتزايد شعبيتها، ويمكن أن تؤدي لاختصار الفترة الزمنية للعلاج.
وأخيرًا، فإنَّ ازدحام الأسنان ليس المشكلة الوحيدة التي تنتج عن قصر طول الفك؛ فانقطاع النفس أثناء النوم هو أحد التبعات الأخرى، لأنَّ ضيق حجم الفك يعني صغر المساحة المتاحة للسان، وبالتالي انسداد مجرى الهواء بسببه. ولذلك ليس من المفاجئ ازدياد شعبية الأجهزة وعمليات إطالة الفك في علاج انقطاع النفس الانسدادي أثناء النوم.
في كل الأحوال، فإنَّنا نحمل في أفواهنا إرث تطورنا. وربما تكون لدينا بيئة فموية لم يضطر أسلافنا إلى التعامل معها، لكنَّ إدراك ذلك يمكن أن يساعدنا في التعامل معها بطرق أفضل.
فكِّر في ذلك كل مرة تبتسم فيها وأنت تنظر إلى المرآة.
هذا المقال مُترجم عن مجلة «إيون» Aeon، كتبه بيتر أونجار، الأستاذ بجامعة أركانساس حيث يدير مختبره الخاص. وحرَّر المقال الأصلي المحررة مارينا بنجامين.