ترجمات

السؤال الأهم في الحياة من وجهة نظر نيتشه: هل ترقُص؟ 

تشتهر أعمال فريدريك نيتشه بصعوبة تناولها. فقد كتب بعدة أساليب، منها المقالات والشذرات والقصائد والروايات. وقدم مفاهيم فريدة خاصة به، كالروح الحرة والإنسان الأعلى والعود الأبدي والاضطغان، والمثال الزهدي وإعادة تقييم القيم وتوكيد الحياة. وقد تغيرت اتجاهاته من تأليف الكتب الداعمة للمؤلف الموسيقي ريتشارد فاغنر والفيلسوف أرتور شوبنهاور إلى نشر الكتابات النقدية اللاذعة فى حقهما. فليس من المستغرب إذن أن تتفاوت تأويلات دارسي نيتشه بشكل واسع: هل كان شاعرًا أم فيلسوفًا؟ عدميًا أم نسبي الأخلاق أم متعاطف مع النازية؟ ناقدًا أم مؤسس نظام؟ مسيحيًا أم عدوًا للمسيحية؟ تعتمد الإجابات عادةً على أيٍ من أعمال نيتشه يعتبره القارئ الأكثر أهمية.

فى وجه هذا التعقيد، يتيح لنا نيتشه مفتاحًا لتفسير أعماله؛ وهو إشاراته للرقص. فعند أخذها جميعًا في الاعتبار، تنير هذه الإشارات طريقًا يبدأ من كتاب نيتشه الأول «مولد التراجيديا»1، ويمتد عبر كل أعماله الهامة حتى آخر كتبه، كتاب «هذا هو الإنسان»2، والذي نُشِرَ بعد موته. لا تربط هذه الإشارات بين أفكاره وأساليبه فحسب، بل تسلط الضوء أيضًا على دافعه المستمر لتعليم القراء كيفية توكيد الحياة هنا والآن على هذه الأرض بصفتهم بشر ذوي أجساد. فإشارات نيتشه للرقص تلفت الانتباه إلى التربية الحسية التي لطالما أصر على كونها ضروريةً لخلق قيمٍ تتماشى حقًا مع الحياة على الأرض.

حين كتب نيتشه كتابه الأول، لم يكن يدرك الأهمية التي سيحظى بها الرقص في فلسفته، ويعود ذلك جزئيًا إلى ولعه بفاغنر. كان الموسيقار قد بدأ في تأليف سلسلة من أربعة أعمال أوبرالية (سلسلة الخاتم، التي تعد واسعة الصيت في وقتنا الحاضر)، بنية إحياء تقليد التراجيديات اليونانية القديمة، طامحًا في تحقيق ما وصفه شوبنهاور بقوة الموسيقى على إنقاذ البشر من رغبات وعناء الإرادة. 

أثناء زيارات نيتشه لفاغنر وزوجته كوسيما، شجع الزوجان الشاب على كتابة عمل أكاديمي يدافع فيه عن هذه الدعاوى. لكن، كما اعترف نيتشه لاحقا، في اندفاعه نحو مدح فاغنر (وشوبنهاور)، أغفل واحدةً من رؤاه الخاصة، وهي أنَّه في تراجيديات اليونان القديمة، كان رقص المنشدين ضروريًا لضمان أن تنتج قصص الجنون والمعاناة والموت شعورًا جامحًا يؤكد الحياة عند المشاهدين.

يحلل نيتشه فى كتابه «مولد التراجيديا» هذه التجربة المتناقضة. فيشرح أنَّ رقص وغناء فرقة الكورال يحرك المشاهدين ليشعروا في أعماقهم بما يعبر عنه الكورال، ألا وهو الإيقاعات الجوهرية للطبيعة الغير متناهية في إبداعها. وحين تحركهم الإيقاعات، يشعر المشاهدون بالسعادة، ويتعرفون على ذواتهم الجسدية بصفتها أجزاءً من كلٍ دائمٍ خلَّاق. ومن وجهة النظر الحسية هذه، لا ينهار المشاهدون لفجيعة موت بطلهم أو إلههم أو مثلهم الأعلى، بل يرون هذا الموت كمجرد لحظة في تتابع مستمر للمشاهد. 

يطلق نيتشه على هذا التأثير»التحول السحري»، حيث تؤدي مشاعر المعاناة والذعر لدى المشاهدين إلى الشعور «بارتياحٍ ميتافيزيقي»، وإلى فكرة أنَّ «الحياة في نهاية المطاف ممتعة وعصىٍة على التدمير، بالرغم من كل تغيرات المظاهر».

لاحقًا، في كتابه «إنسان مفرط في إنسانيته»3، يوضح نيتشه أنَّ كل الرمزية الإنسانية، حتى الموسيقى، تجد جذورها فى «محاكاة الإيماءات الجسدية» التي نجدها فى التراجيديا القديمة. إذ كتب أنَّ الدافع الإنساني للتحرك مع الآخرين «أقدم من اللغة، ويحدث لا إراديًا … حتى حين تكون لغة الإيماءات مقموعةً عالميًا»، حسبما شهد بنفسه بين مسيحيي عصره. ويصر نيتشه أنَّه حينما لا يتعلم البشر كيف يحركون ذواتهم الجسدية، تتبلد حواسهم، ويفقدون القدرة على تمييز ما هو في صالحهم. ويطرح سؤالًا: «أين هي الكتب التي تعلمنا كيف نرقص؟» هنا، يأخذ الرقص الدور الذي سيلعبه في جميع أعماله، وهو دور المعيار الذي يحدد به نيتشه طبيعة أى قيمة أخلاقية، أو فكرة، أو ممارسة، أو شخص: «هل ترقص هذه القيمة الأخلاقية أو الفكرة أو الممارسة أو الشخصية؟ هل تحفز لدينا شعورًا مبهجًا يؤكد الحياة؟». 

بعد كتابه «إنسان مفرط في إنسانيته»، تقاعد نيتشه عن التدريس بسبب سوء حالته الصحية، وبدأ في التخطيط لكتابة تراجيديته الخاصة: كتابٌ مصمم ليوقظ في قراءه وجهة نظرٍ حسية، يمكنهم من خلالها أن يختبروا موت الإله -الإله المسيحي في هذه الحالة- كشيءٍ فى مصلحتهم، يبعث على حب الحياة؛ كتابٌ يعلمنا أن نرقص.

شرع نيتشه في كتابة تراجيديته بعد انقطاع العلاقات بينه وبين صديقيه، عالم النفس بول رى ولو أندرياس سالومي، المرأة التي أحبها كلاهما. اعتقد نيتشه أنَّه وجد فيها الشخص الوحيد الذي فهم مسعاه لتوكيد الحياة توكيدًا راديكاليًا. وقد وضع الثلاثي خططًا للعيش معا فى مجتمعٍ فكري أطلقت عليه أندرياس سالومي اسم «الثالوث الغير مقدس». لكن لم ترَ خطط الثلاثي النور، ويرجع ذلك فى المقام الأول إلى شكوك زرعتها إليزابيث شقيقة نيتشه. وفي حالةٍ من اليأس والجزع، كتب نيتشه لصديقه العزيز فرانز أوفربيك: «إذا لم أستطع اكتشاف الحيلة الكيميائية لتحويل هذا الطين إلى ذهب، سأضيع».

بعد شهر، ظهر «التحول السحري» الخاص بنيتشه فى صورة الجزء الأول من كتابه «هكذا تكلم زرادشت»4، متبوعًا بثلاثة أجزاء أخرى بعد فترة وجيزة. فى هذه القصة، عاش زرادشت وحيدًا على قمة جبل لمدة عشر سنوات، ثم نزل ليعلم الناس كيف يحبون أنفسهم وإنسانيتهم. الأجزاء الأربعة كلها مليئة بإشاراتٍ للرقص والراقصين؛ فزرادشت نفسه راقص، وما يحث الآخرين على فعله هو الرقص، إذ يعظهم قائلًا: «أنتم أيها البشر الأسمى، أسوأ ما فيكم أنَّكم لم تتعلموا أن ترقصوا كما يجب على المرء أن يرقص؛ أن تسموا بالرقص فوق أنفسكم! لكن مع هذا الفشل فلا بأس، ما زال بإمكانكم تحقيق الكثير». وعندما قال زرادشت: «لا يمكنني أن أؤمن إلا بإله يعرف كيف يرقص»، أراد بذلك التأكيد على أنَّه حتى مثلنا العليا يجب أن تشجعنا على توكيد حياتنا الجسدية.

بعد «هكذا تكلم زرادشت»، استمر نيتشه فى استحضار الرقص كمعيار للقيم المؤكدة للحياة. ففي نقده لأخلاق الغرب الأوروبي المسيحي في «جينالوجيا الأخلاق»5، يظهر الرقص كنشاط يمارسه الأقوياء ليحافظوا على قدرتهم على استيعاب تجاربهم. فهؤلاء الذين يرقصون لا يثقل كاهلهم شعور الاضطغان أو الحاجة إلى الإنتقام، ذلك لأنَّهم يمتلكون التمييز الحسي اللازم لمقاومة التطبيقات الضارة لقيمة الزهد. وفي «أُفول الأصنام»6 و«نقيض المسيح»7، يظهر الرقص كنهج لتدريب الوعي الحسي وإصقال مهارات الإدراك والمسؤولية، بحيث يصبح الفرد قادرًا على المشاركة مشاركةً مسؤولة في خلق القيم، آخذًا في الحسبان نتاج حركاته. إشارات نيتشه المتكررة للرقص هي تذكيرٌ دائم بأنَّ الجهد المبذول للتغلب على النفس، وتحريرها من الغضب والمرارة واليأس حتى يقول الإنسان «نعم!» للحياة، ليس مجرد مهمةٍ فكرية أو علمية. فالقدرة على توكيد الحياة تتطلب ممارساتٍ جسدية تضبط عقولنا بالإيقاعات الأساسية، وبالقدرة الإبداعية لحواسنا، وبأجسادنا، التي هي «السبب العظيم»، أجسادنا التي لا تعبر عنا بالكلام، بل بالفعل. فقط حين ننخرط في هذه الممارسات سيكون لدينا الوعي الحسي المطلوب لتمييز ما إذا كانت القيم التي نخلقها والحركات التي نقوم بها تعبر عن حبنا لأنفسنا وللأرض.


هذا المقال مُترجم عن مجلة “إيون” Aeon، كتبته الفيلسوفة وباحثة الأديان والراقصة كيميرر لاموث، والتي لها عدة كتب ومؤلفات منشورة في نفس الموضوع. وقد تُرجِم المقال ضمن مختبر سيلاس للترجمة عام 2023.

  1. The Birth of Tragedy (1872) ↩︎
  2. Ecce Homo (1908) ↩︎
  3. Human, All Too Human (1878) ↩︎
  4. Thus Spoke Zarathustra (1883) ↩︎
  5. On the Genealogy of Morals (1887) ↩︎
  6. Twilight of the Idols (1889) ↩︎
  7. The Antichrist (1895) ↩︎

نُشرت بواسطة بسمة الإتربي

حاصلة على بكالوريوس في الإعلام من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، كما درست فى علم النفس، والكتابة الإبداعية، والرسم. وعملت كمعلمة مكتبة ومعالجة للأطفال ذوي الاحتياجات التعليمية. وفى 2022، حصلت على درجة الماجستير فى الدراسات الإسلامية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وهى مهتمة بمجالات الأديان المقارنة، وعلم النفس، والفلسفة، والكتابة الإبداعية، والفن. ونُشِرَت بعضٌ من قصائدها فى أنثولوجيا بعنوان "And We All Breathe the Same Air".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *