ترجمات

الحفريات المفقودة لا تقل أهميةً عن تلك التي نعثر عليها

الثيولاكانث مجموعة قديمة من الأسماك فَصيَّة الزعانف، ذات زوائد غريبة على هيئة سويقات عظمية سمينة عضلية. حفريات هذه الأسماك موجودة بطول السجل الحفري منذ العصر الديفوني، أي منذ حوالي 390 مليون عام مضى. لكن منذ حوالي 66 مليون عام، الوقت الذي انقرضت فيه الديناصورات، اختفت أسماك الثيولاكانث تمامًا من السجل الحفري، وبدت وكأنَّها انقرضت. ثم في عام 1938، التقط أحد الأشخاص سمكة ثيولاكانث من شبكة صيد قبالة ساحل جنوب إفريقيا.

الدرس المستفاد هنا هو أنَّ غياب الدليل على وجود شيءٍ ما، كما في حالة غياب حفريات أسماك الثيولاكانث، لا يعني بالضرورة عدم وجوده. إليك مثالًا أكثر غرابة: هناك مجموعة من دارسي الحيوانات الخفية تؤمن بوجود جماعات من ديناصور التيروداكتيلوس المجنح تتخفى في الأماكن المعزولة من الكوكب، كبابوا غينيا الجديدة أو الغابة المطيرة البرازيلية. مثل أسماك الثيولاكانث، اختفت الزواحف المجنحة من السجل الحفري منذ حوالي 66 مليون عام مضى، وليس هناك أي دليل على وجود أي منها اليوم. هل يجب أن نُطبق نفس المبدأ المُطبَّق على أسماك الثيولاكانث؟ أم أنَّ غياب الدليل في هذه الحالة، ولسبب ما، يمكن أن يُعد دليلًا على الغياب؟

تفسير هذه الفجوات في السجل الحفري أمرٌ بالغ الصعوبة، خصوصًا عند دراسة الماضي السحيق. فالعلوم المُسماة بـ«العلوم التاريخية»، كالجيولوجيا والآثار والحفريات، تدرس طبقات المواد المترسبة، التي طال أغلبها الدمار أو التحلل بمرور الزمن. ولا يمكن إعادة بناء هذه الطبقات على طاولة مختبر أو في مُسرِّع جُسيمات. وللتغلب على هذا التحدي، يمارس علماء الحفريات نوعًا من الجوجيتسو العلمي1، فيتعاملون مع فجوات السجل الحفري كدليلٍ على شيءٍ ما في حد ذاتها.

تأمَّل هنا نظرية العالم داروين المعروفة بالتدرُّجية الداروينية، والتي ترى أن التغيرات التطورية بطيئة وتراكمية. يحتوي السجل الحفري على بعض الحفريات الرائعة التي نرى فيها هذا التغير التطوري التدرُّجي على الطريقة الداروينية. لكننا نجد أن الشائع في السجل الحفري هو العثور على حفرية معينة في الطبقات الصخرية، ثم بقاؤها على هيئتها بلا تغير أو تطور لفترة جيولوجية معينة، ثم اختفاؤها فجأة من السجل الحفري. في هذه الحالة، هل ينبغي علينا أن نعتبر أنَّ غياب الدليل على التطور التدرُّجي دليلٌ على أنَّ التطور ليس تدرُّجيًّا؟

هذا التساؤل منع عن داروين نفسه النوم. وقرر في النهاية أنَّ غياب الدليل على التطور التدرُّجي لا يُعد في ذاته دليلًا على انتفاء المبدأ. وبدلًا من ذلك، عزا فجوات السجل الحفري إلى عدم اكتماله. لكن هذا الرأي همَّش علم الحفريات عن غير قصد. فبما أنَّ المتخصصين فيه يدرسون الحفريات، وبما أنَّ السجل الحفري مليءٌ بالفجوات إلى درجة العجز عن تقديم شيء ذا قيمة عن التطور، إذن علماء الحفريات ليس لديهم تقريبًا ما يسهمون به كي يساعدوننا في فهم تلك العملية.

لنقفز إلى القرن الذي تلا داروين. ففي السبعينيات ذهب عالما البيولوجيا نيلز إلدردج وستيفن جاي جولد إلى  أنَّ عدم وجود براهين على مبدأ التدرُّجية له دلالة في ذاته. وادعيا أنَّ «انعدام التغيرات يُعد معطياتٍ وأدلة»، فإذا كان السجل الحفري يحتوي على حِقَب لم يتغير فيها شيء، فهذا لأنَّه لا شيء تغير في الواقع، وانعدام الأدلة على التطور التدرُّجي يخبرنا بكل بساطة بأنَّه لم يكن يحدث إلا نادرًا. بدلًا من ذلك، اقترح الباحثان أنَّ التطور حدث في صورة اندفاعات سريعة من التغير قبل الوصول لحالة من الاستقرار، وهي نظرية أطلقا عليها اسم «التوازن النقطي».

نشب نتيجة ذلك جدالٌ رد فيه مناصرو مبدأ التدرٌّجية بأنَّ التاريخ يطمس آثاره بتلك الفجوات٬ أي أنََّ قلة شواهد تلك التحولات البطيئة في السجل الحفري تدل على نُدرة عمليات التحفُر الناجحة. هذا بينما اعتبر المناصرون لفكرة إلدردج وجولد عن القفزات التطورية الفُجائية أنَّ هذه الغيابات أدلةٌ بيولوجية في ذاتها. وأرادوا أن يأخذ العلماء قلة التغيرات في السجل الحفري بظاهرها. في كلتا الحالتين، غياب الأدلة أصبح أمرًا بالغ الأهمية.

لنأخذ مثالًا أكثر حداثة من علم الحفريات الديناصورية. عاش نوعا الترايسيراتوبس والتوروصور قرب نهاية العصر الطباشيري في المنطقة المعروفة الآن بغرب أمريكا الشمالية. التوروصور كان أكبر حجمًا من الترايسيراتوبس، وكان له هُدبٌ عظمي أطول على رأسه، به فتحات أو ثقوب. لاحظ الفرق بين جمجمتيهما في الصورة:

صورة 1 من كتاب «الديناصورات» Dinosaurs، المنشور عام 1915، والذي ألفه ويليام ديلر ماثيو.

منذ اكتشافهما في نهاية القرن التاسع عشر، صُنِّف الديناصوران في تصنيفين بيولوجيين مختلفين. وعلى الرغم من اعتبارهما قريبين من الناحية التطورية٬ وُضع كل منهما ضمن جنسٍ مختلف، حيث الجنس هو المستوى الأعلى في التصنيفات البيولوجية من مستوى النوع2.

وفي عام 2010، تحدى عالما الحفريات جون سكانيلا وجون هورنر هذا الإجماع بفرضية «التوروسيراتوبس». زعما في تلك الفرضية بأنَّ التوروصور والترايسيراتوبس كانا من نفس النوع، وأنَّ الاختلافات بينهما كانت تعود إلى عمر الكائن. فكلما نما أفراد هذا النوع، كبرت أجسامهم، واستطالت أهدابهم العَظمِية، وظهرت فتحات في جماجمهم. وحسب هذا الرأي، التوروصور هو مجرد ترايسيراتوبس بالغ.

أين الدليل على ذلك؟ لاحظ سكانيلا وهورنر أنَّ لدينا هياكل عظمية للترايسيراتوبس أكثر مما عندنا من هياكل التوروصور، وأنَّ تحاليل أنسجة عظام التوروصورات أفادت بأنَّهم جميعًا كانوا بالغين أكبر عُمرًا. وعلى الجانب الآخر، فإنَّ بعضًا من عينات الترايسيراتوبس الوفيرة تخص كائناتٍ يافعة أصغر حجمًا أو في بدايات البلوغ. أثار ذلك الأمر تساؤلًا عن سبب عدم العثور على حفريات للتوروصورات الصغيرة، وكإجابة على هذا السؤال، استنتج سكانيلا وهورنر أنَّ ذلك يدل على أنَّه ببساطة لم يكن هناك أيٌ منها. (تجدر الإشارة إلى أنَّ عمل سكانيلا وهورنر تخميني بدرجة كبيرة، وأنَّه لا تزال توجد الكثير من الخلافات حول المصير النهائي لفرضيتهما).

محاولة تفسير عدم عثورنا على بعض الحفريات لها تحدياتها غير المألوفة. وهذه الفجوات والحفريات المفقودة التي لطالما عانى منها السجل الحفري هي جزءٌ كبير من جاذبية علم الحفريات. وفي علم الحفريات الديناصورية، عدد العينات غالبًا ما يكون صغيرًا، والتحدي يكمن في أن نجد طُرقًا مبتكرة لاستخلاص المعلومات من الحفريات. ومن أجرأ التصرفات حينها أن نبدأ في معاملة الحفريات التي لم نعثر عليها كبيانات.

وحالتا أسماك الثيولاكانث وديناصورات التيروداكتيلوس المُجنحة متشابهتان في جانب واحد؛ وهو أنَّ حفريات كلا النوعين كانت مفقودة منذ 66 مليون عام مضى. بالنسبة لديناصورات التيروداكتيلوس، أفضل تفسير هو أنَّها قد انقرضت. أما بالنسبة لأسماك الثيولاكانث، فالرسالة أكثر تعقيدًا. تفسير غيابها عن السجل الحفري قد يستند إلى تعداد أفرادها الصغير، وإلى متى وكيف يحدث التحفُّر في البيئات البحرية، وإلى حقيقة أنَّ الكثير من الصخور في قاع المحيط حديثة العمر. لكن هناك أمرًا واحدًا على الأقل واضحٌ في الحالتين: ما لا يتحفَّر غالبًا ما يكشف لنا عن أسرارٍ كما يفعل ما يتحفَّر.


هذا المقال مُترجم عن مجلة “إيون” Aeon، كتبه أدريان كوري وديريك تيرنر، المتخصصان في الفلسفة، وصاحبا مدونة “إكستنكت” Extinct، التي تتناول فلسفة علم الحفريات. وحرَّر المقال الأصلي المحررة سالي دايفس.

  1. فن من الفنون القتالية اليابانية، يقوم على استغلال قوة الخصم ضده. ↩︎
  2. يُصنِّف علماء البيولوجيا الكائنات الحية طبقًا لتصنيف شجري توضع فيه كل الكائنات الحية كأغصان صغيرة طرفية تتفرع من أغصان أقل عددًا وأكبر حجمًا٬ والتي بدورها تتفرع من أغصان غيرها حتى نصل إلى جذع واحد. فمثلا الكائن الحي المُميز عن غيره من الكائنات يوضع في مستوى النوع. الأنواع المتشابهة والمتقاربة توضع في نفس الجنس٬ والأجناس المتشابهة والمتقاربة توضع في نفس الفصيلة وهكذا. المستويات التصنيفية الأساسية من الأدني للأعلى هي كالآتي: النوع – الجنس – الفصيلة – الرتبة – الصف – الشعبة – المملكة – النطاق – الحياة ↩︎

Published by محمود أبو المجد

هو باحث في الحفريات اللافقارية، مُهتم بعلوم الأرض والحياة والبيئة.

2 thoughts on “الحفريات المفقودة لا تقل أهميةً عن تلك التي نعثر عليها”

  1. Eslam says:

    ترجمة رائعة وموضوع شيق وفيه افكار جديدة

  2. Sohaila says:

    Never say no to new information! Thank you for this beautiful article. I enjoyed it thoroughly.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *