تدوينات

قُل ولا تَقُل: كيف نظر الطناحي إلى مسألة الأخطاء الشائعة

صادفنا مؤخرًا مقالًا للدكتور العلَّامة الراحل محمود محمد الطناحي رحمه الله (1935 – 1999م)، أحد كبار محققي التراث العربي والإسلامي، وقعنا عليه في مجلسٍ للغة العربية الفصحى نقرأ فيه بعضًا من مقالاته التي عنيت بجمعها ونشرها دور نشر مختلفة، وهو مقالٌ بعنوان «التصحِيحُ اللغويّ وضرورة التَّحرِّي»، نشره الدكتور لأول مرة في العدد الثامن من مجلة «الهلال»، في الأول من أغسطس عام 1992م. يستعرض الدكتور في ذلك المقال تاريخ مؤلفات الأخطاء الشائعة والانتقادات التي تعرضت لها، وأهمية فهم مسألة التأويل في اللغة، وضرورة الإلمام بتراث اللغة الواسع قبل التصدي للتخطئة، وهو تراثٌ لا يوجد فقط في المعاجم وكتب النحو في رأيه.

آثرنا أن نعيد نشر هذا المقال هنا لتسهيل الوصول إليه، وذلك لما فيه من فوائد جمَّة لكل مهتم بظاهرة الانتشار الواسع الحاليّ لمسألة الأخطاء الشائعة في أوساط المترجمين والكُتَّاب. وننقُل هنا مقال الدكتور دون تعقيب، فقد كفَّى ووفَّى، ودون تدخلٍ تحريري في أسلوبه الذي تتجلَّى فيه الفصاحة والسلاسة، اللهم إلا لتعويض الفارق بين وسيطي النشر، المطبوع والإلكتروني. وإليكم ما كتب.

التصحِيحُ اللغويّ وضرورة التَّحرِّي

«من عَرف كلام العرب لم يكد يُلحَِن أحدًا»، تذكرت كلمة الأصمعي هذه وأنا أقرأ صفحة «لغويات» في عدد مايو الماضي من مجلة «الهلال»، فقد جاء في هذه الصفحة: 

توفي فلان إلى رحمة الله فهو «مُتوفى»، بضم الميم وفتح التاء والواو وتشديد الفاء المفتوحة وتنوين الحرف الأخير. وهذا من بديهيات اللغة التي كانت معروفة عند الصحف المصرية والعربية، ولكن إحدى الصحف المصرية الكبرى كتبت في صفحتها الأولى منذ أسابيع كلمة «مُتوف» بكسر الفاء وتنوينها بدلًا من «متوفى» التي بيناها، فكأنما أحدث الرجل الوفاة بنفسه، ولم يتوفه الله تعالى!

وهذا الكلام صواب، ولكنه ليس الصواب الذي لا صواب غيره، ولأهل العلم في ذلك كلام طريف يصححون فيه الوجه الآخر لذلك الاستعمال الذي يأتي على ألسنة العامة هذه الأيام، وهو الاستعمال الذي خطأه الكاتب الفاضل، مع أنه ضارب في العربية بعروقه، فإنه يقال: «توفى فلان فهو مُتَوَفٍ» بفتح التاء والواو والفاء في الفعل، وكسر الفاء في اسم الفاعل، ويكون المعنى على هذا الضبط أنه استوفى أجله، واستنفد أيامه في هذه الحياة الدنيا، وعلى ذلك جاءت القراءة المروية عن علي بن أبي طالب، وعن المفضل عن عاصم : «وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا» سورة البقرة (234)، بفتح الياء في «يَتَوَفَّون». قال ابن مجاهد: «ولا يُقرأ بها»، وقال ابن جني في «المحتسب» 125/1: «هذا الذي أنكره ابن مجاهد عندي مستقيم جائز، وذلك أنه على حذف المفعول، أي: والذين يَتَوَفَّوْن أيامهم أو أعمارهم أو آجالهم، كما قال سبحانه: «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» و«الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ»، وحذف المفعول كثير في القرآن وفصيح الكلام، وذلك إذا كان هناك دليل عليه، قال الله تعالى: «وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ» أي شيئًا». انتهى كلام ابن جني. وقد رُوي أيضًا عن الأعمش أنه قرأ قوله تعالى: «وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ» سورة الحج (5)، بفتح الياء، وحكاه أبو حاتم السجستاني، كما ذكر ابن خالويه في «شواذ القراءات» ص 94. فهذا الذي يجري على ألسنة العامة ليس خطأً محضًا، وإن لم يكن هو الأفصح، قال ابن هشام اللخمي: «وإذا كان في الكلمة لغتان وكانت إحداهما أفصح من الأخرى فكيف تُلحَّن بها العامة وقد نطقت بها العرب، وإنَّما تُلحَّن العامة بما لم يُتكلم به».

على أن هذا التوجيه الذي يُسوغ استعمال «تَوَفَّى» مبنيًا للفاعل لا ينبغي أن يُقبلَ إلا من عارفٍ به مُطيقٍ لوجه الكناية فيه. قال الإمام السكاكي في «مفتاح العلوم» ص 98: «فإن جوهر الكلام البليغ مثله مثل الدرة الثمينة، لا ترى درجتها تعلو ولا قيمتها تغلو .. ما لم يكن المستخرج لها بصيرًا بشأنها، والراغب فيها خبيرًا بمكانها، وثمن الكلام أن يوفى من أبلغ الإصغاء وأحسن الاستماع حقه، وأن يتلقى من القبول له والاهتزاز بأكمل ما استحقه، ولا يقع ذلك ما لم يكن السامع عالمًا بجهات حسن الكلام، معتقدًا بأن المتكلم تعمدها في تركيبه للكلام عن علم منه، فإن السامع إذا جهلها لم يُميز بينه وبين ما دونه، وربما أنكره، وكذلك إذا أساء بالمتكلم اعتقاده ربما نسبه في تركيبه ذلك إلى الخطأ، وأنزل كلامه منزلة ما يليق به من الدرجة النازلة، ومما يشهد لك بهذا ما يُروى عن علي رضي الله عنه أنه كان يشيع جنازة فقال له قائل: من المتوفي؟ بلفظ اسم الفاعل، سائلًا عن المتوفى، فلم يقل: فلان، بل قال: الله، ردًا لكلامه عليه مخطئًا إياه، منبهًا له بذلك على أنَّه كان يجب أن يقول: من المتوفَّى، بلفظ اسم المفعول .. وما فعل ذلك كرم الله وجهه إلا لأنه عرف من السائل أنه ما أورد لفظ «المتوفي» على الوجه الذي يكسوه جزالة في المعنى وفخامة في الإيراد، وهو وجه القراءة المنسوبة إليه «وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا»، بلفظ بناء الفعل للفاعل، من إرادته معنى: والذين يستوفون مُـدَد أعمارهم».

قضية لغوية

وهذا الذي رأيته من تسويغ «تَوَفَّى» وإخراجه من دائرة الخطأ المحض يقودنا إلى قضية لغوية كبيرة شغلت اللغويين قديمًا وحديثًا، وهي قضية التصويب اللغوي، وقد بدأ التصنيف فيها مواكبًا لجمع اللغة وتدوينها، على نحو ما نرى عند الكسائي (189هـ) في الكتاب المنسوب إليه «ما تلحن فيه العامة». وتحت هذا العنوان كتب كثير من علماء اللغة الأوائل، مثل الفراء (207هـ) وأبي عبيدة (210هـ) والأصمعي (216هـ)، ومن في طبقتهم ومن جاء بعدهم، بل إن حركة التصحيح اللغوي هذه قد شارك فيها بعض علماء الترك في الدولة العثمانية الذين اتخذوا العربية قلمًا ولسانًا، فرأينا ابن كمال باشا (940هـ) يؤلف كتابه «التنبيه على غلط الجاهل والنبيه»، ثم جاء علي بن بالي القسطنطيني (992هـ) فصنف كتابه «خير الكلام عن أغلاط العوام».

ومعلوم أن حركة التصحيح اللغوي قد تغيت غاية كبيرة، هي المحافظة على سلامة اللغة، في أصواتها ومفرداتها وتراكيبها وإعرابها ودلالة ألفاظها. ومعلوم أيضًا أن التنبه للخطأ اللغوي قديم، وأن محاصرته والتوقي منه مما جاءت به السُّنة والأثر، فقد رُوي أن رجلًا لحن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أرشدوا أخاكم»، وروي عنه عليه السلام أنه قال: «أنا من قريش ونشأت في بني سعد، فأنَّى لي اللحن؟». وقال أبو بكر رضي الله عنه: «لأن أقرأ فأُسقِط أحب إليَّ من أن أقرأ فألحن». وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: «من أبو موسى» فكتب إليه عمر: «أما بعد فاضرب كاتبك سوطًا واحدًا وأخِّر عطاءه ـ أي راتبه ـ سنة».

ومن أصدق وأدق ما قيل في استنكار اللحن واستبشاعه ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «إن الرجل لَيُكلمني في الحاجة يستوجبها فيلحن فأردُّه عنها، وكأني أقضم حَبَّ الرمان الحامض، لبغضي استماع اللحن، ويُكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيُعرب – أي يتكلم كلامًا صحيحًا ـ فأجيبه إليها، التذاذًا لما أسمع من كلامه». وروي عنه أيضًا أنه قال: «أكاد أضرس إذا سمعت اللحن». وقال عبد الملك بن مروان: «اللحن في الكلام أقبح من الجُدري في الوجه». 

وينتهي عصر الراشدين واللسان العربي لا يزال صحيحًا محروسًا لم يتداخله الخلل ولم يتطرق إليه الزلل، وتأتي الدولة الأموية، ومن بعدها العباسية، وتكثر الفتوح ويدخل الناس في دين الله أفواجا، فتختلط الألسنة، وتتداخل الأصوات واللهجات، ويستعمل العربي ما لابُد له منه في الحوار والخطاب اليومي، من أجنبي ودخيل، فيضاف إلى عامل «اللحن» القديم عامل آخر، هو هذا الدخيل، فينهض له علماء اللغة، فتكثر الجهود والتصانيف في حركة التنقية اللغوية. 

وفي عصرنا الحديث يطرأ عامل ثالث: هو الاستخفاف باللغة والنحو والصرف، وإشاعة أن الاشتغال بمثل هذه العلوم مضيعة للوقت والجهد الذي ينبغي أن يُصرف إلى الفكر وحده، ثم ظهرت بدعة «التفكير الموضوعي» الذي يرفض الاحتفال بهذه الشكليات من حركات الإعراب وأبنية الأسماء والأفعال، والرسم (الإملاء)، ثم يكون التخليط في هذه القواعد والضوابط سمة من سمات التحرر والانعتاق من ربقة التخلف وأكفان الموتى ورمائم القبور! 

ويفزع لهذه الغاشية طائفة من علماء اللغة والنحو المحدثين، فيتصدون لهذا الانحراف عن سَنَن العربية، فيما عُرف بالتأليف في الأخطاء الشائعة. ومن أبرز ما كُتب فيها «لغة الجرائد» لإبراهيم اليازجي، التي نشرها مقالات في مجلة الضياء التي أنشأها بمصر سنة 1898م، و«حول الغلط والفصيح على ألسنة الكتاب» لأحمد أبي الخضر منسي، و«تذكرة الكاتب» لأسعد خليل داغر، و«أخطاؤنا في الصحف والدواوين» لصلاح الدين سعدي الزعبلاوي، و«الكتابة الصحيحة» لزهدي جار الله. ثم كتب العلامة النحوي الشيخ محمد علي النجار عدة مقالات في مجلة الأزهر، باسم «لغويات»، نشرها بعد ذلك مجموعة بمعهد الدراسات العربية بجامعة الدول العربية. وكتب العالم العراقي الدكتور مصطفى جواد عدة مقالات أيضًا بمجلة عالم الغد البغدادية، بعنوان «قل ولا تقل» نشرها بعد ذلك في كتاب، إضافة إلى ما ذكره في كتابه: «مباحث لغوية في العراق». 

على أن هذه الجهود التي بُذلت في التنقية اللغوية وتصحيح اللسان العربي، قد تعرضت في القديم والحديث لحركة نقدية واسعة، تبعًا لمقياس الصواب اللغوي وعلى أي صورة يكون؟ وهل يقتصر القياس على المشهور الشائع دون القليل النادر كما يرى البصريون، أم يقاس على الشاهد الواحد والشاهدين، كما يقول الكوفيون؟ وهل نقف عند أفصح اللغات ونُلغي ما سواها، أم نجعل الشاذ والفصيح واحدًا؟ وقد كان بعض اللغويين يتشدد ويحكم بالخطأ على ما لم يكن فصيحًا وإن جاءت به لهجة من لهجات العرب ولو كانت ضعيفة، وكذلك يعد صحيحًا كل ما رواه لغوي ولو كان منفردًا بروايته. ولعل أعدل منهج في القبول والرد هو ما أُثر عن أبي عمرو بن العلاء، وقال له أحدهم: «أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيها كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقال: كيف تصنع فيما خالفك فيه العرب وهم حجة؟ قال: أعمل على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغات»، فهذا منهج يقوم على اعتبار الأكثر، وعدم إنكار الأقل، فهو يقبله ولكنه يضعه في دائرة اللغات، واللغات عندهم تعني ما نسميه نحن الآن: لهجات.

ومن أشهر كتب نقد مؤلفات التصحيح اللغوي قديمًا: ما صنفه ابن هشام اللخمي الإشبيلي (577هـ) فقد ألف كتابه: «المدخل إلى تقويم اللسان وتعليم البيان»، وعرض فيه بالنقد لكتابين تقدماه في لحن العامة، هما: «لحن العامة» لأبي بكر الزبيدي الإشبيلي (379هـ)، و«تثقيف اللسان وتلقيح الجنان» لابن مكي الصقلي (501هـ). وقد ذكر ابن هشام أن الزبيدي «تعسف على عامة زمانه في بعض الألفاظ، وأنحى عليهم بالإغلاظ، وخطأهم فيما استُعمل فيه وجهان وللعرب فيه لغتان»، وأن ابن مكي الصقلي أنكر على العامة «ما يحتمل التأويل أو يكون عليه من كلام العرب دليل».

لغة الجرائد

وفي عصرنا الحديث أيضًا تعرض مؤلفو الأخطاء الشائعة إلى كثير من النقد والمراجعة، ومن ذلك ما كُتب من نقد حول «لغة الجرائد» لليازجي، وما أثير حول «قل ولا تقل» لمصطفى جواد. وقد دارت معظم هذه النقود والتعقبات حول معيار الحكم بالخطأ والصواب على هذا الاستعمال أو ذاك، ويكشف عن اختلاف معايير الحكم بالخطأ والصواب هذان المثالان: خطَّأ أبو بكر الزبيدي العامة في قولهم: امرأة سكرانة، وبيَّن أن الصواب: سكرى، ثم ذكر أن بني أسد كانوا يقولون: سكرانة، فرد عليه ابن هشام اللخمي: «فإذا قالها قوم من بني أسد، فكيف تُلحَّن بها العامة، وإن كانت لغة ضعيفة، وهم قد نطقوا بها كما نطقت بعض قبائل العرب». ورُوي عن أبي عثمان المازني أنه قال: «دخلت بغداد فأُلقيت علي مسائل، فكنت أجيب فيها على مذهبي، ويخطئونني على مذهبهم»، وذلك في كتاب «مغني اللبيب»، مبحث «إذا».

على أن أعظم ما تعرض له الذين كتبوا في التصحيح اللغوي في القديم والحديث هو التسرع وعدم الاستقصاء والتحري، والوقوف عند حدود القاعدة اللغوية والنحوية، دون التفات إلى المسموع والمأثور المتناثر في كتب العربية على اختلاف علومها وفنونها، فالمعاجم على تنوعها واتساع بعضها لم تُحص اللغة كلها، وآية ذلك ما تراه في فهارس أئمة تحقيق النصوص، من تلك الألفاظ والتراكيب التي جاءت في أشعار العرب وكلام أهل العلم من السابقين الأولين، مما لم يُذكر في المعاجم اللغوية المتداولة، ومن ذلك ما ذكره شيخنا محمود محمد شاكر بآخر طبقات فحول الشعراء باسم «ألفاظ من اللغة أخلت بها المعاجم أو قصرت في بيانها».

وما تراه في فهارس أستاذنا عبد السلام هارون رحمه الله: للبيان والتبيين، والأصمعيات والمفضليات ومقاييس اللغة. 

وليس غريبًا أن تغيب بعض الألفاظ والتراكيب عن معاجمنا اللغوية، فإن لغتنا العربية أوسع من أن تحيط بها المعاجم وحدها. وقد قال الإمام الشافعي: «لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي». وعلى هذا فإن اللغة ينبغي أن تُلتمس من كتب العربية كلها، لأنك واجد في كتب التفسير والحديث والفقه وأصوله وعلم الكلام والأدب والبلاغة والتاريخ والجغرافية وسائر فنون التراث من اللغة ما لا تجد بعضه في كتبها المصنفة فيها المقصورة عليها، وذلك لأن العربية كتاب واحد.

وإذ قد ثبت هذا ـ إن شاء الله – فإنه من الواجب على من يتصدى للتصحيح اللغوي أن يتحلى بالأناة والتوقف والصبر، وألا يهجم على التخطئة دون سند قوي وحُجة غالبة.

نماذج

وقد كنت عُنيت في مطالع الشباب بتلك الكتب المصنفة في اللحن والأخطاء الشائعة، وكنت أحفظ منها مسائل ذوات عدد، أديرها على لساني في مجالس المذاكرة والمطارحة، مزهوًا بما أحفظ، إذ كان عندي هو الصواب الذي لا صواب غيره. وحين أذن الله ـ وهو الذي بيده الخَير كله ـ أن أتصل بما كتبه أهل العلم في كتب العربية، وبخاصة شروح الشعر وغريب القرآن والحديث، والأمالي والمجالس، وكتب التراجم والطبقات، ووقفت على تصرف أهل البيان في الأبنية والألفاظ والتراكيب، حين تم لي ذلك – على ضعفي وقلة حيلتي ـ أيقنت أن ليس الطريق هنالك، وأن التخطئة والتصويب لا يُصار إليهما إلا بعد عناء وجهد، لأن الأفق رحب والمدى واسع، والشوط بعيد، وبخاصة أننا في زمن انقطعت دونه الرواية، وغاب الأشياخ، فأُوصد بغيابهم باب ضخم من أبواب العلم، لأننا أبناء أمة قام تراثها على الرواية والتلقي والمشافهة والتوقيف، والكتب وحدها لا تصنع عالمًا، وقد قال أبو الفتح ابن جني فيما وقع له من كلام شيخه أبي علي الفارسي: «ولمثل هذه المواضع يُحتاج مع الكتب إلى الأستاذين» – في شرحه لتصريف المازني 210/1 ـ وقال ابن قيم الجوزية: «ولمثل هذه الفوائد التي لا تكاد توجد في الكتب يُحتاج إلى مجالسة الشيوخ والعلماء»، كتاب «بدائع الفوائد» 101/1، وإذ قد وضح لي بعض الطريق جمعت طائفة من تلك الألفاظ والتراكيب التي خطَّاها الناس، ورأيت صوابها أو استعمالها عند بعض أهل العلم قديمًا، وأكتفي من ذلك هنا ببعض النماذج التي تمهد لما أردته من ضرورة التحري والمراجعة أمام كل تخطئة أو تضعيف:

1- يُخطِّئ بعضهم استعمال «النفس» في غير التوكيد، يريدون أنك تقول: «الشيءُ نفسه»، ولا تقول: «نفس الشيء». وقد وجدت استعمال هذا الذي يخطئونه في کتاب سيبويه 266/1 ـ وحسبك به – وذلك قوله: «وتجري هذه الأشياء التي هي على ما يستخفون بمنزلة ما يحذفون من نفس الكلام»، وقوله أيضًا في 379/2: «وذلك قولك: نزلتُ بنفس الجبل، ونفس الجبل مقابلي». وقال الجاحظ في «الحيوان» 76/1: «ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة». وقال ابن جني في «الخصائص» 348/1: «وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس «أو» بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى «أو»». وقال المرزوقي في «شرح الحماسة» ص 892: «وأشار بقوله الأبد إلى نفس الدهر». بل إن هذا الاستعمال قد ورد عند من هو أقدم من هؤلاء جميعًا، وهو الخليل بن أحمد، شيخ العربية وشيخ سيبويه، وذلك قوله في كتاب «العين» 117/8: «والترباء : نفس التراب».

2- يُخطئ بعض النحويين استعمال «قد لا يكون» لأن «قد» لا تدخل على النفي، والصواب أن يُقال: «ربما لا يكون». وقد وجدته في كلام لابن جني، قال في «الخصائص» 20/1: «كما أن القول قد لا يتم معناه إلا بغيره»، وفي كلام للمرزوقي، قال في «شرح الحماسة» ص 57: «والاكتفاء به قد يقع وقد لا يقع». ثم وجدته كذلك عند المالقي في كتابه «رصف المباني في شرح حروف المعاني»، ص 455، قال في مبحث «قد»: «إن نفيت فقلت قد لا يقوم، توقعت العدم».

3- يرى بعضهم أن كلمة «مجانًا» مبتذلة وغير فصيحة وتوشك أن تكون عامية، وأن الصواب أن يستعمل مكانها «بدون مقابل» ونحوه، وقد رأيتها عند ابن فارس، في «مقاييس اللغة» 299/5، قال: «والمجان هو عطية الرجل شيئًا بلا ثمن». وقد استعملها ابن خلدون في مقدمته ص 557، قال: «فليست اللغات وملكاتها مجانًا».

4- يستسقط بعضهم تركيب «عبارة عن كذا»، وقد رأيتُه في كلام ابن جني، قال في كتابه «الخاطريات» ص 58: «ويؤكد ذلك أن لفظ الجبال قد وضع عبارة عما لا تدركه المعاينة». وقد رأيت هذا التركيب كثيرًا في كلام الفقهاء، وكُتُب التعريفات.

5- منع بعض النحويين دخول «أل» على «بعض»، فلا يجوز أن تقول: «أحبوا بعضهم البعض»، وإنما تقول «أحب بعضهم بعضًا». وقد أدخل سيبويه «أل» على «بعض»، وذلك قوله في «الكتاب» 57/1: «وربما قالوا في بعض الكلام: ذهبت بعض أصابعه، وإنما أنث البعض لأنه أضافه إلى مؤنث هو منه». وكذلك صنع ابن جني في «الخصائص» 64/1، قال: «فلما كان الأمر كذلك واقتضت الصورة رفض البعض واستعمال البعض»، وكذلك استعملها ثلاث مرات في «الخصائص» 334/3، ومن قبل سيبويه وابن جني دخلت «أل» على «بعض» في الشعر الجاهلي، وذلك قول المرقش الأصغر، في إحدى رواياته، يصف فرسه:

شهدتُ به عن غارة مُسبطرة        يطاعن بعض القوم والبعض طَوَّحوا

6- وكذلك منع بعضهم دخول «أل» على «غير»، لكني وجدتها في «ديوان المعاني» لأبي هلال العسكري 98/2، وكتاب «الهوامل والشوامل» لأبي حيان التوحيدي ومسكويه ص 117، ثم رأيتها قديمًا في كلام لصاحب القاموس في موضع غاب عني الآن.

7- يخطئ بعضهم استعمال الفعل «ساهم» بمعنى «شارك»، على أساس أنه لم يأت في المعاجم إلا «ساهم فلان القوم»، أي دخل معهم في القرعة فقرعهم وغالبهم. لكنه قد جاء بمعنى «شارك» في شعر ينسب لزهير ولأبي الأسود الدؤلي، وهو قوله:

أبا ثابت ساهمت في الحزم أهله        فرأيك محمود وعهدُك دائم

وعلى ذلك جاء في المعجم الوسيط، الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة .

وهكذا نتبين صدق كلمة الأصمعي السابقة «من عرف كلام العرب لم يكد يُلحن أحدًا».

لكن هذه الكلمة على صدقها لا ينبغي أن تُتخذ سبيلا للفوضى اللغوية أو الحرية في استعمال ما نشاء، وارتكاب الضرورات والمحظورات اللغوية، بدعوى أن من الأوائل من ارتكب الضرورة واستعمل الشاذ، ثم بزعم أننا يجب أن نرفع العوائق ونحطم الحواجز أمام الإبداع والمبدعين … ولهذا وأشباهه حديث آخر..

نُشرت بواسطة مدونة المترجم

رأي واحد حول “قُل ولا تَقُل: كيف نظر الطناحي إلى مسألة الأخطاء الشائعة”

  1. سهيلة يقول:

    رائع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *