تعلُّم اللغات الجديدة يشبه كثيرًا التعرف على أشخاص جدد. فبعضهم يصبحون سريعًا من أصدقائك، وبعضهم تنساه خلال وقت قصير، كمعادلات التفاضل والتكامل والأحداث التاريخية المهمة، التي تختفي من ذاكرتك فور انتهاء الفصل الدراسي. لكن في بعض الأحيان، سواءٌ بالصدفة المحضة أو نتيجة رحلة طويلة وملحمية، تقودك بعض اللغات إلى شفا الحب.
تلك هي اللغات التي تستنزفك عن آخرك، فيما تبذل قصارى جهدك لتجعلها ملكًا لك. تحلل بنيتها النحوية وتتلو تصريفات أفعالها، وتملؤ دفاترك بأنهار من حروفها الجديدة. تجر قلمك على انحناءاتها وحوافها مرارًا وتكرارًا، كما لو كنت تمرر أصابعك بلطف على وجه محبوبك. تتفتح الكلمات على أوراقك، وتتناغم الوحدات الصوتية لتشكل ألحانًا. ويصبح للجمل مذاق عطري، حتى وهي تتهاوى من فمك بارتباك كطوب من رموز أجنبية. وتحفظ النثر والقصائد وعناوين الجرائد غيبًا، فقط لتتلوها بعد غروب الشمس وعند طلوعها.
وفعلًا تلو ظرف، واسمًا بعد ضمير، تتعمق علاقتكما. ومع ذلك كلما اقتربت، زاد وعيك بالفجوة التي تشبه السراب بينكما. شاسعة هي هذه الفجوة المعرفية، وستحتاج عمرًا بأكمله لتتخطاها. لكنك لست خائفًا. فدربك إلى محبوبك يشع بفضول ودهشة لا يفارقانك. فما هي الحقائق التي ستكشفها عن العالم وعن نفسك وسط هذه الحروف والأصوات الجديدة؟
لكن كما في كل العلاقات، تتلاشى حالة السعادة الغامرة بعد فترة. إلا أنك بعد استفاقتك تستمر في التحليل والحفظ والاستماع والتحدث. تجد أنَّ نطقك للكلمات لا يمكن تقويمه، وأخطاءك لا مفر منها. والقواعد لا نهاية لها، مثلها مثل الاستثناءات. وتفقد الكلمات العذبة سحرها. لكنَّ إخلاصك لها وحاجتك إليها باتت أقوى من أي وقت مضى. لقد ابتعدت عن نقطة الانطلاق مسافة بعيدة جدًا ولم يعد بإمكانك العودة. تشعر بالالتزام والضعف، والثقة في إحسانها. وحين تجدد نذورك لها، تأتيك اللغة محملة بعطايا الإلهام، وتُهديك صلات جديدة، ليس فقط مع أناس آخرين لم تكن تعرفهم، لكن أيضًا مع نسخة جديدة منك .
هذه العطايا التي تفيض بها علينا اللغات الأجنبية غمرت العديد من الكتاب المشهورين. منهم فلاديمير نابوكوف، الذي عاش في الولايات المتحدة لبضع سنوات فقط قبل أن يكتب روايته لوليتا (1955)، التي أُشِيدَ بها باعتبارها «رسالة حب إلى اللغة من مؤلف متعدد اللغات»، وأكسبته لقب «أستاذ النثر الإنجليزي». وهناك أيضا الأيرلندي صامويل بيكيت، الذي كتب بالفرنسية للهرب من فوضى اللغة الإنجليزية. وكذلك لم ينجح الكندي يان مارتيل في الكتابة بلغته الأم الفرنسية بالقدر الذي حققه حين كتب بالإنجليزية، التي قال إنها منحته «مساحة كافية للتعبير». تلك المساحة، التي وجدتها الكاتبة التركية إليف شافاق في الكتابة باللغة الإنجليزية، قالت إنَّها تقربها أكثر إلى وطنها، رغم كونها ليست بلغتها الأم.
وعندما جلس هاروكي موراكامي إلى طاولة المطبخ لكتابة روايته الأولى، شعر أنَّ لغته اليابانية الأم تعيقه. كانت أفكاره تندفع منه كأنَّها تخرج من «حظيرة مكتظة بالماشية»، على حد تعبيره. ثم حاول الكتابة باللغة الانجليزية، مستخدمًا ما توفر له من عدد محدود من المفردات والتراكيب اللغوية البسيطة. ومع ترجمته (أو «نقله» كما يصف) لجمله الإنجليزية المختصرة «المجردة من كل الدهون الزائدة» إلى اليابانية، وُلد أسلوب مميز غير مزخرف، أصبح بعد عقود علامة لنجاحه العالمي. يشبه موراكامي في ذلك الكاتبة جومبا لاهيري الحائزة على جائزة البوليتزر، والتي عندما بدأت في الكتابة بالإيطالية، اللغة التي أحبتها وتعلمتها لسنوات، أحست وكأنَّها تكتب بيدها الأضعف؛ كانت «مكشوفة»، و«مترددة»، و«غير متمكنة». ورغم ذلك، كتبت عام 2015 أنَّها شعرت بالخفة والحرية والأمان، وبأنَّها قد ولدت من جديد. جعلتها اللغة الايطالية تعيد اكتشاف السبب الذي تكتب من أجله: «متعة الكتابة والحاجة إليها».
لكنَّ علاقات الحب لها سطوة بالغة، تطال كل جانب من جوانب حياتنا، بما في ذلك لغاتنا الأصلية. تحتفظ جدتي بمجموعة من الرسائل كنت قد كتبتها لها بعد مغادرتي أرمينيا إلى اليابان. ومن وقتٍ لآخر، تخرج مجموعة الأظرف المليئة بالطوابع اليابانية، التي تحتفظ بها بجانب جواز سفرها، لتقرأ رسائلي إليها. تؤكد جدتي بفخر أنَّها تحفظ جميع كلماتي عن ظهر قلب. لكنَّها ذات يوم، وبينما نجلس متقابلتين وبيننا شاشة وقارة، هزت جدتي رأسها.
قالت لي بنبرة متوجسة، وهي تتفحص جُملي من خلال نظارتها السميكة، إنَّ شيئًا ما قد تغير. وأنَّه مع كل حرف، كان هناك شيء ما يتغير باستمرار.
بالطبع تغير شيء ما يا جدتي، هكذا قلت لها. فقد انتقلت إلى اليابان، ونضجت، …
استدركتْ قولي متحسرةً كمعلمٍ مع تلميذه، موضحةً أنَّ أسلوب كتابتي نفسه قد تغير. ففي البداية كانت توجد بعض الأخطاء العرضية في الإملاء، ثم أصبحت الأفعال والأسماء تأتي في غير أماكنها.
ساد الصمت بيننا. وظللت أحملق بعيناي في الحروف الانجليزية المتراصة على لوحة المفاتيح.
أخبرتني أنَّ هذا ليس بالأمر الجلل، محاولةً تهدئة روعها على الأغلب. غير أنَّ قولها هذا كان كافيًا لجعلي أحبس أنفاسي في كل مرة ألاحظ أخطاء لم أكن ارتكبها من قبل.
ثم فتحت ظرفًا آخر.
وإذ بها تصيح مندهشةً، هذه المرة بخصوص علامات الترقيم! إذ كنت أستخدم الكثير من الفاصلات، لكنَّني أصبحت فقط أضع نقطة واحدة في نهاية الجمل.
رفعت نظارتها فوق لفة شعرها الأبيض، وبدأت بلف كنوزها من جديد في منديل جدي الراحل.
وبابتسامة مهزوزة، قالت إنَّني في آخر رسالة أرسلتها لها ، تغير كل شيء. كنت أكتب بحروفنا واستخدمت كلماتنا، لكنَّها لم تعد تبدو أرمينية بعد الآن.
الحقيقة هي أنَّ الانخراط في علاقة حميمية مع لغة جديدة غالبًا ما يلون كل شيء في حياتنا. إذ تتوقع عيوننا كلماتها الجديدة. وتعتاد آذاننا أصواتها. وتحفظ أقلامنا حروفها. وبينما يستحوذ الانبهار على حواسنا، تنطبع بنية اللغة في أذهاننا. تُرسم المسارات العصبية، وتتكون الوصلات. وتتكامل شبكات الدماغ. تصبح المادة الرمادية أكثر كثافة، وتقوى المادة البيضاء. ثم تبدأ بقع من درجات الألوان الجديدة بالظهور في رسائلي إلى الجدة.
يسمي اللغويون هذه الظاهرة بـ«تدخُّل اللغة الثانية»، وهي تحدث عندما تتداخل اللغة الجديدة مع اللغة القديمة، كما تعيد حبيبتك ترتيب أثاث غرفة نومك، كأنَّها تقول: هكذا ستتم الأمور هنا من الآن فصاعدًا. بطريقة ما، تكشف الكتابة عن هذا التداخل (أو هذه الخيانة، كما رأتها جدتي) أكثر مما يمكن للحديث أن يفعل. ربما لأنَّه عندما نتكلم، فإنَّ كلماتنا تكون تحت رحمة تعبيرات وجوهنا وطبيعة أصواتنا، كما لاحظ الكاتب الفرنسي غي دي موباسان: «لكنَّ الكلمات المكتوبة على صفحة خالية تكشف الروح تمامًا».
رغم مرور عقدين على آخر مرة كتبت فيها باللغة الأرمينية، لم يكن ينبغي لجدتي أن تبكي على موتها. فاللغات الأم، مثل أي حب أول، يصعب نسيانها. فهي وفية ومتسامحة، حتى عندما تتقلص حدود قدرتنا على التعبير وتمتلئ كتاباتنا بالأخطاء، وحتى عندما تبدو حروفنا غريبة وتُهجر أصواتنا الأولى، ففي النهاية، تلك اللغات ربتنا. عرفتنا عندما لم نكن نعرف أنفسنا، وشاهدتنا ونحن نتحدث ونكتب ونفكر. علمتنا أن نحب وأن نحزن، وعرفتنا القواعد والاستثناءات. وهي تدرك أنَّ صداها سيتردد بداخلنا لفترة طويلة، حتى بعد أن نصبح ضيوفًا في منازلنا: من الطريقة التي سنضم بها المفردات الجديدة بعضها إلى بعض، إلى الطريقة التي سنهمس بها صلواتنا القديمة. ولذلك فهي تراقبنا بهدوء، وبلا قلق، ونحن ننجرف بعيدًا إلى أحضان غيرها. في تلك الحالة المتناقضة من الجهل والدهشة، والتقييد والحرية، والرهبة والتقديس، والإحباط والفرح، ترى لغاتنا كتابها يمارسون ما يدعوه موراكامي حقهم الأصيل «في تجربة إمكانيات اللغة». هناك، في معمعة الانتماء والاغتراب، تجد لغاتنا بناتها وأولادها وهم يسعون لاستكشاف أنفسهم1.
هذا المقال مُترجم عن مجلة «إيون» Aeon، كتبته ماريانا بوغوسيان، أستاذة علم النفس الثقافي بكلية السياسة وعلم النفس والقانون والاقتصاد بجامعة أمستردام في هولندا. وقد حرَّر المقال الأصلي المحررة بام وينتروب.
- تعليق المترجم: هذه هي المرة الأولى التي أترجم فيها مقاطع وصفية من الإنجليزية إلى العربية لنص بهذا المستوى من الإتقان اللغوي. فقد طغت على النص الاستعارات والتركيبات اللغوية المتنوعة والجمل المبنية بعناية.
لكن ما أرهقني حقًا حقيقة مثيرة للاهتمام، وهي رغبة الكاتبة في جعل المقال حوارًا بينك وبينها. فهي لا ترسل لك رسالة أو قصة في بريدك، بل تريد أن تحكي لك قصتها وأنت تجلس أمامها، تنقل لك تعبيرات وجهها وحركات يديها واهتزازات رأسها وتطاير عينيها. لحظات التردد والمرور من الشك إلى اليقين والعودة إلى الشك مرة أخرى في مسار متتال، سيؤدي بعد وقت طويل إلى الوصول إلى اللحظة التي نتملك فيها اللغة وتتملكنا هي في المقابل. وفي هذه الحالة، يجب عليَّ ألا أقتصر على نقل كلامها فقط، بل أن أجعلها تعيد نفس المحادثة التي خاضتها معي ومع غيري. ولذلك عليَّ أن أحاول استدعاء الصور التي استحضرتها والمشاعر التي أحستها لوصف مراحل علاقة الحب الفريدة هذه. ومن الضروري لنجاح هذا الأمر ألا أكتفي بالسعي إلى إيجاد تخريجات لغوية دقيقة لعبارات لا يمكن ترجمتها مباشرة من الإنجليزية إلى العربية؛ لأنَّه بذلك العملية ستكون مجرد عمل ميكانيكي، ولن يعيش القارئ تجربة الاستماع المباشر لماريانا بوغوسيان.
↩︎